ما زلت أذكر المرة الأولي التي كتبت فيها لاستنكار هذا الاعتقال الغاشم الذي استهدف كوكبة بارزة من خيرة أبناء هذا الوطن.. يومها لم أكن لأظن أبدًا أن أعوامًا طويلة ستمضي وتمر وما زلنا نعيش هذا الكابوس الأليم وما زال أبي وإخوانه قابعين خلف أسوار هذا الظلم الشديد.. ولله الأمر من قبل ومن بعد نحمده علي كل حال.. نحمده أن جعلنا من فريق المظلومين المضحين لا من فريق الظالمين المعتدين، فالدنيا زائلة وفانية ومحكمة الآخرة التي لن يفلت منها أحد لا محال آتية.
مرت قرابة أربعة أعوام وها أنا أكتب من جديد وقد امتزجت بداخلي المشاعر.. مشاعر الفخر بهذا الرجل الذي أنتسب إليه وأحمل اسمه وسام شرف علي صدري.. هذا الرجل الذي يقدم كل يوم بصبره وتضحيته ونضاله دليلاً عمليًا دامغًا علي حقيقة إيمانه بالغاية التي عاش من أجلها وهي بناء مشروع حضاري لنهضة أمته.. وبرهانًا ساطعًا علي مصداقيته في المبادئ التي آمن بها ودعا لها.. هذه المبادئ التي يدفع من أجلها اليوم ثمنًا غاليًا.. وضريبة باهظة ثم لا تراه بعد ذلك إلا صابرًا محتسبًا داعيًا ومحفزًا لنا ولكل من حوله علي الاستمرار في العمل من أجل نهضة هذا الوطن ورفعة شأنه ورفع رايته.
في الوقت ذاته تتملكني مشاعر الألم والحزن الدفين ونحن نمر هذا الشهر بذكري هذه الجريمة الشنيعة التي سجلت بأسطر من الظلم وحروف من الاستبداد صفحات دامية من الألم والمعاناة والحرمان.. بل سجلت وبحق وصمة عار علي جبين هذا الوطن.. هذا الوطن الذي يكيل بأبنائه الشرفاء الذين قدموا له الغالي والنفيس والذين حمل تاريخ كل منهم سجلاً حافلاً بالإنجازات والإسهامات في سبيل بنائه ونهضته.. وبدلاً من أن يدفع بهم إلي منصات التكريم كما هو الحال في أغلب البلدان المتقدمة يزج بهم في زنازين حقيرة.. ويلقي بهم في غياهب السجون.. لا لذنب جنوه أو لجرم فعلوه.. بينما المجرمون ينعمون ولا يحاسبون بعدما القانون غاب.. وحكمنا منطق الغاب.
إنه ليعتصرني وأسرتي هذه الأيام ألم أعمق وحزن أشد لأننا هذه الأيام لا نعيش ذكري هذه الأحكام الجائرة فحسب ولا مناسبة مرور قرابة أربعة أعوام علي هذا الاعتقال الغاشم، إنما أيضًا مرور عشرة أعوام كاملة علي حبس والدي «م. خيرت الشاطر» بل إن العام الحادي عشر قد أوشك علي التمام.. عشر سنوات ويا لها من كلمة.. واحسرتاه فيما فعل الظالمون بنا.. إن كلماتي لتعجز عن الوصف وإن لساني ليعجز عن التعبير.. كيف أصف مشاهد حزن تزاحمت ومشاعر ألم تأججت.. وحال قلوب لجأت لله واشتكت.. كيف أحكي عن أيام طويلة رفعت فيها الأيدي أكفها .. واحتسبت عند الله جل همها...وذرفت بليل حر دمعها.. والله إن الكلمات لتعجز عن وصفها.. حقًا لقد جاوز الظالمون المدي.. حتي احترت ماذا أكتب.. فهل أكتب عن الزوجة التي توالت عليها الصدمات وتكررت عليها الأزمات فعانت طويلاً وتحملت كثيرًا وقد حرمت زوجها وسندها.. أم عن الأم التي قهرت وحرمت ابنها وفلذة كبدها.
هل أحكي كيف عاني الأبناء.. أم كيف فارق الآباء.. كيف تزوجت بدونه البنات؟.. أم كيف ولد بعيدًا عنه الأحفاد.. لقد رزق الله أبي - أيها السادة - ثماني من البنات ليس منهن واحدة إلا وكانت خطبتها أو زواجها أو عقد قرانها بدون والدها أو جميع هذه المناسبات مجتمعة وقد حرمهن الظالمون أن يكن معًا ورزق بــ ستة عشر حفيدا وحفيدة لم يحضر سوي إنجاب اثنين منهم حتي إن معظم هؤلاء الأحفاد لم يرونه ولو مرة واحدة داخل جدران المنزل وليس الزواج والإنجاب فحسب بل كبر الأبناء وقد حرم من أن يكون معهم في أغلب المحطات المهمة في حياتهم من امتحانات لنتيجة دخول الجامعات.. لحفلات التخرج.. مرت الأيام وهو بعيد حتي صار الطفل شابًا وصار الشاب شيخًا.
أم هل أحكي عن آباء صارعوا المرض طويلاً ورفعوا أيديهم كثيرًا آملين في البقاء.. رغبة في اللقاء ثم آثروا الرحيل ليشتكوا ظلم العباد لرب العباد وليكون لقاء أبي بهم وهم في الأكفان.. هل أحكي عن الأمان الذي فقدناه أم عن الفرح الذي حرمناه.. عشر من رمضان أو يزيدون..عشرون عيدا يشهدون.
هل أحكي وما أقسي أن أحكي عن هذا القلب الذي اتسع دومًا ليحمل هموم هذه الأمة جنبًا إلي همومنا.. هذا القلب الذي انشغل دومًا بأن يسري عن الآخرين ويستوعبهم حتي عندما يكون في أحوج الأوقات التي يحتاج فيها من يسري عنه.. هذا القلب الذي اعتاد أن يحمل هموم الآخرين قبل همه.. ما أقسي أن يخبرنا الطبيب أن هذا القلب يتألم وقد ضعفت عضلته وقلت كفاءته.. ما أقسي أن نجد والدي وهو يعاني أمراضًا عديدة يجلس بعيدًا عنا في زنزانة بعيدة ونحن مكتوفي الأيدي ولا نملك أن نقدم له شيئًا.
أم هل أحكي عن أحداث تكررت وكروب توالت، هل أحكي عن الاعتقال الرابع أم الأول أم الثاني.. عن الهجوم البربري وكيف بتنا نفقد الأمان في كل الليالي.. هل أحدثكم عن المحكمة العسكرية الأولي وصدمتها.. أم المحكمة الثانية وفداحة مصيبتها .. هل أحكي عن الجلسات السرية أم عن المهازل المسرحية.
هل أحكي عن الإفراجات الأربعة وكيف سرقوها أم عن فرحتنا وكيف اغتالوها.. وكيف تحول الإفراج من محكمة مدنية للإحالة لمحكمة عسكرية.
لا والله لن أحكي عن هذا أو ذاك فإن معاناة أبي ومعاناتنا لفقده أكثر من عشر سنوات كاملة لحمل تنوء لحمله الكلمات ولا تتسع له الصفحات.. تعجز عن نقله السطور وتضيق في وصفه المقالات.. لله وحده نشكو همنا فهو المطلع علي حالنا نفوض له أمرنا ونشكو له ضعفنا ونحتسب عنده ألمنا كما نحتسب عنده هذه الأعوام الطويلة بل أيامها بكل لحظاتها وثوانيها.
إنما أردت بكلماتي أن أوجه سؤالاً لمن ظلم أبي وظلمنا سؤالاً واحدًا يشبه سؤالاً سألته أسماء بنت أبي بكر من قبل.. أما آن لهذا الفارس الأسير أن يتحرر؟ أما آن لهذا الكابوس أن ينتهي؟ أما آن لهذه الخصومة الفاجرة وهذا الظلم المتعنت أن يتوقف؟ هذه الخصومة الفاجرة اتجاه شخص والدي «م.خيرت الشاطر» والتي تمثل دليلاً ساطعًا علي مدي استبداد هذا النظام وظلمه ومدي تنكيله بالشرفاء من هذا الوطن نري هذه الخصومة الفاجرة وهذا التعنت في الظلم ونحن نري أن «م.خيرت الشاطر» هو أكثر سجين رأي تم حبسه من حيث طول إجمالي المدد التي حبس فيها في ظل هذا النظام فلقد أوشك علي إتمام عامه الحادي عشر وهو الذي لم يرتكب جرمًا أو عنفًا ولم يسجن ولم يخطف من بيننا إلا من أجل فكره وآرائه التي شهد الجميع بوسطيتها واعتدالها.
ونري هذه الخصومة الفاجرة أيضًا عندما نري أنه أكثر سجناء الرأي حصولاً علي أعلي الأحكام في ظل هذا النظام.. وبالطبع كما تعلمون من محكمة عسكرية.. حيث لم تتم إدانته ولا مرة أمام القضاء المدني، حيث إن أبي حصل علي أعلي حكم في قضية 95 بحصوله علي 5 سنوات وأعلي حكم في القضية الأخيرة بحصوله علي 6 سنوات.. ليحصل علي مجموع أحكام 12 عامًا.
هذه الخصومة الفاجرة تظهر أيضًا جلية عندما يكون أول سجين رأي في مصر تصادر أمواله ويحفظ علي شركاته وهذا لم يكن وحسب في هذه القضية بل أولاً في قضية سلسبيل عام 1992 وهو الذي لم يدفع يومًا رشوة ولم يسرق يومًا من المال العام بل وهو الذي شهد له الجميع بالعقلية الاقتصادية ولمشاريعه بالأغراض النفعية وليس فقط الربحية.. فهو الذي سعي لتصنيع البرمجيات وفتح الشركات وجلب لوطنه العديد من الاستثمارات.. لتكون مكافأته ورد الجميل له الاعتقال والمحاكمات.
وتتجلي هذه الخصومة الفاجرة في أبشع صورها في تسييس القضاء.. وقد بدأ هذا مع أبي عندما أحيل عام 95 لمحكمة عسكرية والكل يعلم ما تعنيه هذه المحكمة، فطعن أمام المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية إحالة رئيس الجمهورية في المدينة للمحاكم العسكرية وترك الطعن في الإدراج ولم يبت فيه فتحمل جراء ذلك أن يسجن 5 سنوات كاملة ثم ازدادت المأساة بإحالته مرة أخري علي نفس التهمة لمحكمة عسكرية ثانية عام 2006 والأمرَّ أن ذلك كان بعد عدم تنفيذ الدولة لأحكام القضاء المدني التي صدرت ببراءته بل وطالب بالإفراج الفوري عنه.. وعندما أحيل للمرة الثانية تقدم بطعن ثان إلي جهة أخري ربما ينجح في رفع هذا الظلم الفادح وهي المحكمة الإدارية بمجلس الدولة فقضت بالحكم التاريخي بعدم أحقية رئيس الجمهورية بإحالته ومن معه كمدنيين لمحكمة عسكرية وكالعادة المؤلمة لم تحترم أحكام القضاء ولم تنفذ وتم إحالة الحكم للإدارية العليا رغم أن القانون يوجب الإفراج عنه وعدم الانتظار وكانت الكارثة بأن قررت الإدارية العليا وقف النظر في الطعن وتعليق القضية لحين فصل المحكمة الدستورية في الطعن المرفوع والموضوع بالأدراج منذ عام 1995م، مما يعني أن يقضي 7 سنوات أخري دون أي تحرك للدستورية في فصل القضية وصرخت الأصوات المظلومة وبحت أصوات المحامين لماذا يؤجل تنفيذ قرار الإدارية لحين انتظار الدستورية ولا يتم وقف وتأجيل حكم المحكمة العسكرية لحين بت الدستورية فماذا لو حكمت المحكمة الدستورية بعد 12 عاماً قضاها ظلمًا بالحكم الطبيعي والقانوني ألا يحال المدنيون للمحكمة العسكرية، في الوقت الذي يحال فيه الجواسيس للمحاكمة المدنية.
وهل هناك فجر في الخصومة أكثر من أن يُسجن كل هذه الأعوام دون أن يقدم دليل واحد علي إدانته، لقد تحدي أبي في قاع المحكمة العسكرية شاهد أمن الدولة أمام القاضي العسكري وطلب منه أن يقدم ولو دليلاً واحدًا ضده فرد القاضي هادئًا بعد أن عجز الشاهد عن الرد في موقف تعجز الكلمات عن وصفه «لا يوجد دليل ضدك يا بشمهندس» ومازال أبي يتحدي أن يقدم أحد دليلاً واحدًا يثبت إدانته في أي تهمة.. فالأمر كله لا يقوم إلا علي تحريات واهية وتهم هزلية لا يثبت لها أي دليل.
إن هذه الخصومة الفاجرة وهذا الظلم المتعنت يدفعني للتساؤل لماذا خيرت الشاطر؟ ماذا فعل ليستحق هذا العداء وماذا جني ليستحق هذه الخصومة الفاجرة وقد وصفه الجميع بالشخصية التوافقية وهو الذي لم يستفز أحدًا ولم يعادي أحدًا ولم يترشح أو يسعي لمنصب يومًا والذي سعي للتواصل والحوار دومًا.
أيها السادة.. من كان يسأل عن استقلال القضاء فلينظر لخيرت الشاطر.
من كان يسأل عن حقوق الإنسان فليسأل عن خيرت الشاطر.
من كان يسأل عن الحريات في عهد هذا النظام فلينظر لخيرت الشاطر.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر كل من تعاون معنا أو وقف بجوارنا أو سعي لرفع الظلم عنا.
أما هؤلاء الذين يشاهدون هذه الجريمة في صمت فأقول لهم لا تزينوا بصمتكم عجزنا...لا تشاركوا بسلبيتكم في ظلمنا.. لا تحملوا بسكوتكم وزرنا.
ولله نفوض أمرنا وعليه دومًا اتكالنا فهو حسبنا
مقالة فاطمة الزهراء خيرت الشاطر
هناك تعليقان (2):
لا أملك إلا أن أقول ما أمرنا به الله سبحانه وتعالي (حسبنا الله ونعم الوكيل)
حسبنا الله ونعم الوكيل لن أقول أكثر من هذه العبارة
إرسال تعليق