شهادتي لآل الشاطربقلم: د. محمود غزلان
صبيحة الإثنين 25 مايو فاضت روح حماتي أو بالأحرى أمي بعد أمي إلى بارئها، وبعد الصبر الحزين والتسليم والاسترجاع لله الحي الذي لا يموت، الآخر الذي ليس بعده شيء، شرد ذهني يستحضر شريط أحداث امتدت لأكثر من اثنتين وثلاثين سنة، منذ دخلتُ هذا البيت وصرت فردًا من أفراده، وفي العزاء تبارى الخطباء في ذكر مناقب الفقيدة العزيزة- رحمة الله عليها- ورأيتهم جميعًا يتحدثون من خارج الدار، ويذكرون انطباعات عابرة عنها، فوجدتُ لزامًا عليَّ أن أكتب، وخصوصًا أن كتابتي ستكون من داخل البيت حيث كنت مشاهدًا بل طرفًا في الدقائق والتفاصيل؛ وذلك من قبيل الشهادة أولاً، والوفاء ثانيًا، وتقديم نموذج عجيب لبيت وأسرة لم يتعلم ربها وربتها في معاهد وجامعات، ولم يدرسوا فلسفات ومناهج ومحاضرات، ولم يحصلوا على شهادات وإجازات، ولكنهما تعلَّما من أسرتيهما في ريف مصر الحلال والحرام، والخطأ والصواب، والخير والشر، وما يجب وما لا ينبغي أن يكون، تعلَّما هذا كله في صورة سلوك حي ومعاملة يومية وقدوة دائمة، ثم علَّماه لأولادهما.إنني حين أنظر إليهما أخالهما من طينة غير طينتنا، وبيئة غير بيئتنا، وعصر غير عصرنا، وقيم غير قيمنا، على الرغم من أن القيم ثابتة إلا أن الناس يتغيرون؛ الأمر الذي يثير قلقي على جيلنا والأجيال بعده.لقد كتبت من قبل مقالات وأبحاثًا؛ بيد أن هذا المقال فرضته مشاعر ملأت النفس حتى فاضت، فكُتب بمزيج من ذوب القلب وعَبْرة العين ومداد القلم، ولم أتعمد ترصيعه بأدوات البلاغة ومحسنات الكلام وإنما رصَّعه صدق الشعور وجلال الحقائق.وإذا كنت أنوي الكتابة عن آل الشاطر فلا بد أن أبدأ بكبيرهم الحاج سعد الشاطر- رحمة الله عليه- الذي توفي منذ نحو عشرة أعوام، وكان أول لقاء معه حينما ذهبتُ إليه لأخطب ابنته الكبرى، وكنتُ قد كلمتُ شقيقها (أخي الحبيب خيرت الشاطر) بشأنها، فجمعني بها في بيته حتى يأتي أبوه من العزبة فأخطبها منه، ومرَّ علينا الحاج في بيت خيرت لدى عودته إلى بيته، ثم انصرف إلى بيته فتبعته، وجلسنا سويًّا هو وأنا فقط في غرفة الاستقبال، وساد صمت عميق فلا كلمة ترحيب منه ولا كلمة مجاملة، حتى اضطررت أن آخذ دور المُضيف وأرحب أنا به وأتودَّد إليه، حتى أيقنت أن مطلبي مرفوض مرفوض، وأخيرًا استجمعت شجاعتي وقدحت قريحتي وقلت له: لقد عرفت خيرت وتربيته وأخلاقه وكان من الطبيعي أن أستنتج أن البيت الذي ربَّاه وخرَّجه كفيل أن يربي مثله إن لم يكن خيرًا منه؛ ولذلك فقد جئت أطلب منك يد ابنتك فتكلم للمرة الأولى قائلاً: يشرفنا يا بني، وتنفست الصعداء، ولم يسألني عن شيء قط؛ لا وظيفة أبي ولا مرتبي ولا قدراتي المادية ولا الشقة ولا المهر ولا أي شيء مما يهم الناس الآن.وبعد فترة سألت عن سرِّ صمته في أول لقاء؛ فقالوا: إنه شديد الحياء، وخصوصًا في مثل هذه المواقف، وبمعاشرتي له وجدته بالفعل رجلاً حييًّا شديد الحياء.وأمام ترفُّعه وعزوفه عن الحديث في إجراءات الزواج، ومطالبهم لإتمامه اضطررت إلى الحديث مع خيرت بشأنها وسألته عن المهر فقال: إن المهر الذي دفعه هو لزوجته (كذا)، وهو المناسب لمستواهم الاجتماعي، ورأيته كبيرًا، وحاولت تخفيضه مذكرًا بأنني مطلوب مني مبلغ آخر للحصول على شقة، ففكر قليلاً ثم قال: عمومًا ادفع ما تستطيعه وعليَّ أنا إكمال المبلغ، فتذكرت سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وقلت: جزاك الله خيرًا وسأتصرف أنا وأدبر المبلغ كله- بإذن الله- وما هي إلا فترة حتى جاءني مبلغ يكمل ما معي إلى المهر المطلوب من حيث لم أحتسب، وتذكرت الحديث الشريف: "ثلاث حق على الله عونهم؛ منهم الناكح يريد العفاف".ويوم العقد دار حديث أمامي بين الحاج وأحد أصدقائه ممن يُطلَق عليهم كبار المزارعين، قال الصديق إن هناك شقة في حي توريل (أرقى أحياء المنصورة) تتكون من خمس حجرات، وبها تليفون (وكان الحصول على تليفون في ذاك الوقت مشكلة) ويريد صاحبها مبلغ (كذا) للخلوّ، فقال الحاج بدون تفكير: أنا آخذها وكان هذا الخلوّ يعادل ثلاثة أضعاف المهر الذي دفعته، واعتبرتها مسألة خاصة لا تعنيني في شيء، وبعد عدة أيام حدثتني زوجتي أن الحاج حصل لنا على شقة في المنصورة، فقلت لها: لعلها الشقة ذات الحجرات الخمس في توريل فقالت نعم، فقلت لها: إنني لا أقبل أن ينفق الحاج عليّ، إضافةً إلى أنني لن أعيش في المنصورة، ثم إننا سنعيش في مستوانا، وسنبدأ حياتنا في حدود قدراتي أنا، وقد كان.عند كتابة عقد الزواج رفض- رحمه الله- أن يكتب فيه أي مبلغ كمؤخر صداق على خلاف ما تعارف عليه جميع الناس.ظللت أضغط على زوجتي حتى تتواضع في اختيار الجهاز (الأثاث) من حيث الكم والنوع متذرعًا بأن هذا هو السنة، إضافةً إلى أنني لا أمتلك وقتها حتى شقة، وعندما أتحصل عليها فلا أعتقد أنها ستكون كبيرة، ومن ثم يجب أن نقتصد في التجهيز، ومذكرًا لها بأنها ستعيش معي في مستوى أدنى من المستوى الذي تعيشه مع أبيها، فأجابت بأنها على استعداد أن تعيش معي في غرفة فوق السطوح.بعد إتمام التجهيز لم أكن قد حصلتُ على شقة، فاستأذنت أخًا كان قد استأجر شقة وكانت فارغة حيث كان يعمل في السعودية، استأذنته في أن أتزوج فيها ريثما ييسر الله لي الحصول على شقة فوافق- جزاه الله خيرًا- وعندما عرضت الأمر على الحاج سعد- رحمه الله- أمر بإرسال الأثاث فورًا إلى الشقة التي لم أكن مالكها ولا حتى مستأجرها، وهذا أمر يندر من يوافق عليه.بعد الزواج لاحظت أن أحدًا لم يتحدث معي أو يطلب مني التوقيع على قائمة الأثاث، فظننت أن حياءهم منعهم من ذلك، فقمت بإحضار ورقة بيضاء (فلوسكاب) وكتبت في رأسها بعد البسملة أقر أنا (فلان) بأنني استلمت المنقولات المبينة في هذه الورقة، وأنها في حيازتي ومسئوليتي، وتركت الورقة بيضاء ووقَّعتُ في ذيلها وأرسلتها إلى الحاج وأنا أعلم أنه يمكن أن يُكتب فيها أي شيء إلا أن ثقتي في دين هؤلاء الناس وأمانتهم كانت أكبر من كل شيء، وبعد أسبوع وعند زيارة حماتي الفقيدة- رحمها الله- وجدتها ترد إليَّ الورقة وتقول لي: (الحاج بيقولك: عيب) حاولت أن أراجعها بأنه حقهم، ثم هو عُرْف عند كل الناس، فقالت: عيب.وأثناء بحثي عن شقة خاصة وجدتُ زوجتي تعطيني (الشبْكة) لأبيعها وأستعين بثمنها على تكاليف الشقة.كانت هذه تجربتي الشخصية في بداية دخولي هذا البيت، ثم علمت بعد ذلك ورأيت أن الحاج- رحمه الله- كان تاجرًا كبيرًا ربح الملايين إلا أنه بدد معظمها في أوجه الخير، فما من أحدٍ اقترض منه- وما أكثرهم- وطالبه برد ديْنه، إلا أن يفعل ذلك هو من نفسه، ولعل هذا ما أطمع فيه الكثيرين.كان- رحمه الله- دائم الصلة لأهله جميعًا، والقرية كلها وما حولها أهله.تعهَّد الطلابَ رقيقي الحال في بلده بالإنفاق والرعاية حتى تخرجوا من الجامعات، فمنهم الطبيب والمهندس والمحاسب.. إلخ.كان بيته في المنصورة هو نُزُل كل أهل القرية عندما يأتون إلى المدينة للتسوق وتجهيز البنات والاستشفاء، وربما أقاموا الليالي ذوات العدد، وهكذا لم يكد البيت يخلو من أضياف في يوم من الأيام وكانت زوجته- رحمها الله- وبناته يقمن على خدمة الوافدين؛ الأمر الذي دفع البنات لإتقان كل أعمال المنزل وهن في سن صغيرة.كان يقوم على تزويج البنات الفقيرات في القرية والعزبة.. في سنة 1967م كانت له أموال عند تجار العريش بحكم التجارة فتعذر الحصول عليها بعد احتلال سيناء، وكان لهؤلاء التجار أولاد يدرسون في مصر فتعهدهم- رحمه الله- بالإنفاق والرعاية حتى تخَرَّجوا، وبعد عودة سيناء إلى مصر جاءه هؤلاء التجار إلى بيته بديونهم السابقة ونفقاته على أولادهم، فأبى أن يأخذ منهم مليمًا واحدًا.على الرغم من أنه- رحمة الله عليه- لم يكمل تعليمه إلا أنه كان مثقفًا؛ فقد كان كثير القراءة ومكتبته ما تزال شاهدة على ذلك بما تحتويه من كتب دينية وأدبية، فكثيرة هي الروايات الطويلة التي قرأها حتى سمى ابنته الصغرى على اسم بطلة إحدى هذه الروايات، كذلك كان متابعًا جيدًا للسياسة بقراءته للصحف اليومية ومتابعته للإذاعات المحلية والعالمية فكان يسمع إذاعات (BBC) و(صوت أمريكا) و(مونت كارلو)، ويتابع الأحداث ويحسن تحليلها.ولقد حدثوني أنه ما خرجت بنت من بناته من بيته إلى بيت زوجها إلا واختلى بنفسه وبكى بكاءً شديدًا، ولم يكن يفعل ذلك في حالة زواج الأولاد، لا أدرى أكان يفعل ذلك تعلقًا بهن أم شفقة عليهن..؟!أما زوجته الحاجة أم خيرت- رحمها الله- فقد كانت تشاركه في كثير من طباعه وأخلاقه، ومن ثمَّ كانت خير معوان له في مسيرة الحياة، ترعى البيت والأولاد الصغار حال غيابه في تجارته، رفضت أن تأخذ نصيبها من ميراث أبيها، لم تتبرم يومًا وهي تراه يكسب الكثير وينفق الكثير بدعوى أنه يجب أن يؤمِّن مستقبلهم ومستقبل الأولاد كما تفعل النساء؛ بل كانت تشاركه في كل ما يفعل، ولم تشكُ يومًا من كثرة الضيوف وإرهاق الخدمة بل كانت تسعد كثيرًا لكثرة القاصدين، ولا تسمح لأحدهم أن ينصرف قبل أن يتناول الغداء أو العشاء ولسان حالها يقول: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا .. نحن الضيوف وأنت رب المنزلكانت تتعامل مع كل البائعات والبائعين وكل من يقدم لها خدمة ما بالفضل ولا تكتفي بالعدل والحق، حتى رأينا بائعات الدواجن والخضر والممرضات يبكين عليها بكاءً حارًّا، وكذلك الجارات ونساء القرية، ورأينا الحزن الشديد على كنَّاس الشارع وسائق السيارة وكل مَن عرفها، ولا غرو فقد ظلت حتى أيامها الأخيرة تصر على أن يأخذوها في السيارة إلى القرية؛ لتذهب إلى دور المحتاجين دارًا دارًا، وأولادها يطرقون الأبواب، ويخرج لها أهل الدار فتعطيهم ما يجود الله به عليهم؛ لأنها لا تستطيع أن تدخل كل هذه الدور كما كانت تفعل أيام صحتها، وإذا حدثوها أنهم يمكنهم أن ينوبوا عنها في هذا الأمر ترفض رفضًا شديدًا.وإذا كانت هذه معاملتها للآخرين فما بالكم بتعاملها مع أولادها، نعم إن الأمومة صفة مشتركة تدفع إلى التضحية والإيثار؛ ولكنهما في حالتنا هذه كانا شديدَيْ المبالغة والوضوح، فقد كانت شديدة التعلق بأولادها وأولادهم تطير من الفرح حينما يجتمعون حولها، وكثيرًا ما نغَّص هذا الفرح وهذه السعادة غياب أحدهم أو إحداهن حتى لو كانت تعمل في السعودية، وربما غلبها البكاء لغياب فلانة رغم أنها بخير ورغم أن المناخ كله يبعث على السعادة باجتماع الأبناء والبنات والأحفاد، وأنا شخصيًّا كنت أشعر أنني واحد من أبنائها من فرط مودتها وحبها، وقد ظلت- رحمة الله عليها- وقد تجاوزت الخامسة والسبعين تشتري لأولادها وأحفادها كل احتياجاتهم من المنصورة وترسلها إليهم في مصر، رغم ما تتكبَّده من عناء نتيجة الذهاب إلى السوق كل يوم ومن السادسة صباحًا، ونتيجة كثرة البيوت بزواج الأحفاد، وكثيرًا ما أشفقنا عليها نتيجة هذا الجهد والتقدم في السن وضعف الصحة، وكثيرًا ما اشتجرتُ معها أنا وأبناؤها شجارًا ودودًا كي تكفَّ عن هذا، فمصر فيها كل شيء ونحن قد صرنا جدودًا، ولقد أصبح ما تفعلينه واجبًا علينا نحوكِ كي تستريحي أنت، فكانت تقول لن أكف ما دامت صحتي تسمح، وبالفعل لم تمتنع إلا بعد أن أعجزها المرض، رحمها الله رحمة واسعة.كما كانت- رحمها الله- قبل أن يشتدَّ عليها المرض تختم القرآن الكريم كل ثلاثة أيام.هذا جانب، أما الجانب الآخر والأهم فهو تربية الأولاد على ما تربيا عليه من استقامة وصلاح، ثم بعد ذلك الصبر على البلاء الشديد الذي نزل بهما أولاً في ولدهما الأكبر (الأخ خيرت) ثم في نفسيهما بالمرض الشديد قبل الوفاة.أما قصة الابتلاء في خيرت فقد بدأت مبكرة وعمره لم يتجاوز الثامنة عشرة سنة 1968م، فقد انطلقت مظاهرات في القاهرة والإسكندرية بعد محاكمات قادة الجيش بعد نكبة 1967م وقاد هذه المظاهرات طلبة الجامعات، وكان خيرت قائدًا من قادة مظاهرات جامعة الإسكندرية، وأُلقي القبض عليه وأُلقي مع زملائه في سجن الحضرة، وخرج رئيس الجمهورية يُعرِّض به بالاسم في خطبة عامة، وترك أبوه تجارته وأقام بالإسكندرية لمتابعته وزيارته، وكان قطار يحمل بضاعته قد ضُرب واحتُرق بالبضاعة في سيناء 1967م، واستغل بعض العاملين عنده من ذوي النفوس الضعيفة محنته وطلبوا منه تظهير شيكات جاءته من بعض الجهات ثمنًا لبضاعته كي يصرفوها ويحضروا له المبالغ نقدًا، وعندما فعل صرفوا الأموال واختلسوها لأنفسهم، فأصيب في ولده وماله وأُصيب على إثر ذلك بذبحةٍ صدرية، إلا أنه ترك التجارة تمامًا، ولم يعد إليها من يومها وتابع ولده، وسعى لمقابلة وزير الداخلية (السيد شعراوي جمعة) وقابله وقال له إنهم شباب صغار، وينبغي التماس العذر لهم لوطنية مشاعرهم، ولا يصح أن يلقى بهم في السجون، فرد عليه ردًّا غليظًا فما كان منه إلا أن غادر مكتبه مغضبًا لم يتناول عصير الليمون الذي قُدِّم له، وتشاء الأقدار أن يصاب الليثي عبد الناصر شقيق الرئيس في حادث سيارة، ويذهب الرئيس لزيارته في المستشفى، ويلتف حوله أساتذة كلية الطب المعالِجون ويطلبون منه الإفراج عن الشباب المعتقل، فيستجيب لهم؛ إلا أنه أمر بفصلهم من الجامعة، وبالتالي فقد حقَّه في تأجيل التجنيد، ويتم تجنيده ويذهبون به إلى البحر الأحمر حيث مظنة الهلاك فالقصف يدور على مدار الساعة، لعل قذيفة قاصدة أو حتى طائشة تصيبه فيستريح منه النظام؛ ولكن إرادة الله كانت أعلى وأرحم فقد حفظه الله حتى إن قائده ذات يوم طلب منه أن يحمل رسالة إلى قائد موقع بعيد، وعندما عاد وجد موقعه أثرًا بعد عين فقد دمَّرته القاذفات الصهيونية، وقضى فترة التجنيد، ومات عبد الناصر، وعاد إلى جامعته وتخرَّج متفوقًا، وعُيّن معيدًا في هندسة المنصورة وحصل على الماجستير، وشارك في قيادة الحركة الإسلامية، ثم سافر إلى السعودية، فاليمن، فإنجلترا، لدراسة الدكتوراه إلا أن طبيعته كانت تميل إلى العمل الحر وتنفر من العمل الوظيفي فانصرف عن الدراسة واهتمَّ بمجال الكمبيوتر، وعاد وأنشأ شركة سلسبيل فكانت من أوائل شركات الكمبيوتر في مصر، وروَّج صفقةً كبيرةً من الأجهزة بأسعار رخيصة لنشر ثقافة الحاسبات لدى الأفراد والمؤسسات، وكان ممن تعامل معه واشترى منه جهاز المخابرات العسكرية، وتعرَّف عليه بعض اللواءات فيه، وذات يوم كان في تايوان، وكان في مكتب يستأجره للتعاقد على صفقة من الحاسبات فإذا به يقابل بعض اللواءات الذين يعرفونه، ولما سألهم عن مقصدهم وعلم أنهم يريدون شراء عدد من الأجهزة استضافهم في مكتبه وقدَّم لهم خلاصة خبرته ونصائحه، وعندما انتهوا من مهمتهم سألوه عن أتعابه: كم يريد؟ فقال لهم: لا أريد شيئًا، فتعجبوا وسألوه لماذا؟ فأجاب: إنني مصري ووطني، وأنتم تقومون بمهمة وطنية، وما فعلته هو أقل ما يجب عليّ تجاه وطني وجيشه، فانصرفوا شاكرين ممتنين.وبعد فترة في سنة 1992م هاجمت مباحث أمن الدولة شركته، وفتشته، واعتقلته وشريكيه، وفتشت بيوتهم، وبدأت طبول الصحافة تدقُّ وتنشر اتهامات المباحث، وكانت إضافةً إلى الاتهامات التقليدية بالانضمام لجماعة الإخوان المسلمين والدعوة إلى تعطيل الدستور والقانون، كان هناك اتهام خطير باختراق القوات المسلحة وجهاز المخابرات العسكرية، والاستيلاء على معلومات عسكرية عن طريق الكمبيوتر، ويبدو أن هذه الافتراءات كانت في مجال الصراع المكتوم بين الأجهزة الحكومية، ولقد تطوَّع وزير الداخلية وقتئذٍ بالقول بأن هذه التهم عقوبتها الإعدام؛ وذلك في حديثٍ صحفي.ولك أن تتصور وقع هذا الكلام على الوالدين، وكان الحاج قد ترك التجارة منذ سنة 1968م ولجأ إلى أرضه يزرعها، فترك أرضه، وجاء إلى مصر ليرعى حفيداته، وكن ثماني بنات صغيرات، ويبدو أنه توقَّع السوء من الحكومة فحدثني ذات يوم أنه على استعداد لبيع أرضه كلها لتربية هؤلاء البنات، كما حدثني في يوم آخر وهو ينظر إلى الفضاء قائلاً: (الولد ده مش حيسبوه) يعني أن النظام لن يتركه، ولا أدري إن كان هذا الكلام برهان عقل أم إشراقة نفس، فما يزال هذا الرجل مضطهدًا لا يكاد يخرج من السجن حتى يعود إليه، ولا يكاد يُبَرّأُ من تهمة حتى تُلفَّق له أكبر منها، وأعتقد أن خبرة الحاج وثقافته أكدت له أن الفاسدين لا يطيقون رؤية المصلحين، وأن الذين يؤثرون أنفسهم يبغضون الذين يؤثرون على أنفسهم، وأن الذين يجثمون فوق الرقاب والصدور بالقهر والسلطان يمقتون الذين يسكنون القلوب والنفوس بالحب والعرفان، وأن العاطلين عن المواهب والكفاءات يكرهون الموهوبين وأصحاب الكفاءات والقدرات، وقديمًا قال قوم لوط ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل: من الآية56) ومن هنا حرص الظالمون على تغييب خصومهم إن لم يكن عن الوجود فعلى الأقل عن الشهود، فكانت غياهب السجون وأغلال القيود.المهم أن الناس ظلوا في فزع وقلق على ولدهم حتى انفثأت فقاعة الاتهامات الخطيرة عن أكذوبة كبرى وبرَّأ القضاء ساحتهم، وأطلق سراحهم في مشهدٍ كان كفيلاً في أي نظام يحترم نفسه أن يطيح برؤس، ويطهر مناصب من رجس متبوئيها، ويحمي شعبه من تغوُّل أجهزته؛ ولكن للأسف لم يحدث من ذلك شيء.وفي سنة 1995م تم اعتقاله مع حوالي 90 من قيادات الإخوان المسلمين، وقُدِّموا لمحكمة عسكرية حكمت على خمسة منهم بالسجن 5 سنوات، وعلى عشرات بالحبس 3 سنوات، وكان خيرت من المحكومين بخمس سنوات؛ حيث كان عضوًا في مكتب الإرشاد، وقضى الأعوام الخمسة في السجن، وخرج سنة 2000م وبعد عدة أشهر من خروجه انتقل والده الحاج سعد إلى جوار ربه بعد معاناة لمرض السرطان استمرت حوالي عشرة أعوام عاشها في صبر جميل ورضا واستسلام.وفي سنة 2001م تم اعتقاله مرة أخرى، وظل معتقلاً نحو عام، وكانت أمه- رحمها الله- تزوره وتزور زوج ابنتها في نفس الوقت، ثم أُخلي سبيله.وفي عام 2004م أُختير نائبًا للمرشد العام للإخوان المسلمين، فكان برجاحة عقله وهدوء طبيعته عامل استقرار وتهدئة في العلاقة بين الإخوان المسلمين وغيرهم، كما كان بقدرته على الإدارة والإبداع سببًا في التطوير والتجديد داخل الجماعة في ظل الحفاظ على الثوابت الشرعية والحركية.وفى سنة 2006م تم اعتقاله مع مجموعةٍ من أساتذة الجامعات ورجال الأعمال، وقُدِّموا لمحكمة عسكرية بتهم ضخمة وخطيرة منها تدريب الشباب على أعمال العنف ناسبين إليهم المسئولية عما سميت بميلشيات الأزهر، وغسيل الأموال، وتمويل الجماعة، ومن ثمَّ أُغلقت شركاتهم، وعُطِّلت أعمالهم، وصودرت أموالهم، وبعد حوالي مائة جلسة محاكمة أصدرت المحكمة أحكامها وكان نصيبه منها السجن سبعة أعوام، وكان وقع الحكم على أمه شديدًا؛ خصوصًا وقد وهن العظم منها واشتعل الرأس شيبًا، وبلغ المرض منها مبلغه، فكانت تقول لي وهي تبكي: ماذا فعل حتى يُحكَم عليه بهذا الحكم؟ هل قتل؟ هل سرق؟ إنهم جميعًا يعلمون أنه لا يقدم للناس إلا الخير، ألا يخافون الله؟ أليس لهم أبناء؟وزارته هذه المرة مرات قليلة حتى عجزت عن السفر، ومع حزنها العميق وإحساسها بالظلم الكبير؛ إلا أنها ظلت صابرةً تتطلع إلى الله، ولا تقدح في أحد.لقد ظلت هذه الشجرة- شجرة هذه الأسرة- تثمر الكرم والحياء والتضحية والعطاء والصبر والرضا والثبات والتسامح والحب، وقد ظهرت هذه الصفات والأخلاق في بقية الأبناء والبنات فكانوا (ذرية بعضها من بعض).هذه شهادتي، شهادة صدق وحب ووفاء ولا أزكي على الله أحدًا، وأسأل الله الكريم أن يتغمَّد الوالدين بواسع رحمته، ويسكنهما فسيح جناته، ويجزيهما جزاء الصابرين، وأن يُعجِّل بالفرج للأسير الحبيب وسائر إخوانه المظلومين، ويبارك في أشقائه وشقيقاته الأكرمين وأولاده وأولادهم أجمعين، ويكشف الغمة عن هذه الأمة، ويصلح أحوالها، ويحرر أرضها، ويطهر مقدساتها، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه السابقون إلى لقاء وجه ربهم الكريم، إنه نعم المولى وأرحم مسئول.وآخر دعوانا أن الحمد لله ربه العالمين